يستهل الشاعر قصيدته بشكل مباشر وبدون مقدمات عن غياب الجارة التي خالفت موعد الزيارة يقول:
أيـن مـن عيـنَـي جــاره**** خالـفـت وعــدَ الـزيـاره
فهذه الزيارة محملة بمعان كثيرة لأن القارئ يتخيل بأن الزيارة تتعلق بالشاعر ولكنه بمواصلة القراءة يكتشف بأن الشاعر ألف رؤية الجارة وكأنه كان يأنس بظهورها ويترقبه، وهنا يقف القارئ ليتخيل تجلّي هذا الظهور ويتصور سيناريوهات مختلفة، كما يتخيل أيضا حالة الشاعر المترقب لهذا الظهور ما بين الإعجاب والارتباك.... وأجد هذا البيت وحده قصة مشوقة تحيل على قراءات متعددة وتفسح المجال للتخييل ليحلق عاليا وهذا يبين امتلاك الشاعر زمام القص وأدواته...
وقبل أن يضيع القارئ في التخيل يبادره الشاعر مستدركا:
غادرت حيـي و غابـت**** مـاتُـرى مـنـهـا أمـــاره
فالجارة قد غادرت الحي وغاب طيفها واختفت نهائيا ولا شيء يدل عليها، وهذا دليل على أن الشاعر حاول تقصي أخبارها ولكنه لم يستدل على شيء، وفي هذا البيت مرارة يدل عليها الغياب لأن في تكراره مع المغادرة دليل على أنه ضيع أثرها خصوصا إذا علمنا بأن كل ما غاب عن الإدراك أصبح في علم الغيب وهو ما يؤكده قوله:" ما ترى منها أمارة"... وهذا سبب وجيه لإحساس الشاعر بالفقد والحنين اللذين سيحاول الانفلات منهما من خلال استحضار صورة الجارة ..
قــد حـبـاهـا الله حـسـنًـا*** لا تُـجـاريــه الـعــبــاره
ظرفُ قولٍ، لطفُ فعلٍ**** و عـيــونٌ كـالـشـــــراره
ينتقل إلى وصفها فينبه القارئ إلى أن حسنها لا يمكن أن يوصف بالكلام، وهذا اعتذار ضمني غير مباشر عن كون الكلم قاصرا لأن جمالها فوق الوصف وهو ما حاول أن يستعين عليه بالطبيعة بعد أن ميّزها بحسن القول والفعل معا، وهما أهم خصلة تتوفر لبشر؛ لأن حلاوة اللسان المصحوبة بصدق الفعل تترجم صفاء السريرة ونقاء الضمير، وهذا دليل على الذكر الطيب والسمعة الحسنة لهذه الجارة، كما أن تركيز الشاعر عليهما يرجح كفة الأخلاق والسمو الروحي على الجمال الحسي الذي أتى في الدرجة الثانية واختزله في العيون دون المجاوزة إلى سواهما... لأنه عمم الوصف ولم يخصص وفي هذا احترام للمرأة وتغليب لشخصيتها على شكلها وقد ارتفع بالغزل إلى مقام علي بعيد عن الوصف المادي الذي ألفناه في الشعر التقليدي، وهذا يزيد من رصيد الشاعر الذي توسل القالب القديم ولكنه ظل وفيا لمبادئه الأخلاقية .
ثم يواصل الوصف فيقول:
لـو رآهـا البـحـر غـنـى**** راقـصًـا يُـبـدي قــراره
أو رآهـا النـجـمُ أمـسـى****باهتـا يشكـو اصفـراره
أو رأتها الشمس صبحًا****أهمـلـت كــل اسـتــداره
يستطرد في الوصف عن الجمال فيستعير البحر والنجم والشمس وهم أهم ما يضرب بهم المثل في الجمال والجود والإشراق ولم يذكر القمر لأن هذه الدلالة لم تعد ذات قيمة حيث أصبحت عادية جدا فكل من هب ودب يشبه الحبيبة بالقمر؛ لذلك استعار النجم بدل القمر بما يحمل النجم من معان سامية غير مستهلكة وليضيف نوعا من القداسة ( بمعناها اللغوي) على الموصوف، خصوصا وأن ربط جمال المرأة بالقمر يركز على جمال وجهها فقط دون التوغل في باطنها بينما الشاعر يركز على سمو روحها وجمالها الداخلي الذي يشرق وينير المحيط الخارجي... كما أن استعارة الشمس أبلغ من القمر لسطوعها ووهجها وعدم احتياجها لما يظهرها عكس القمر الذي يحتاج إلى الظلام ليكتمل جماله، ثم أن هناك من يقول بأن القمر مرتبط بالكذب والخداع وهو ما لا يريده الشاعر الذي كل همه أن يؤكد على عفة هذه الجارة ورقي أخلاقها فهي كالشمس في وضوحها واستعصائها وسموها؛ فالشمس محور تدور حوله الأرض وهي أسمى من القمر الذي لا يقارن بها مطلقا ...
ويستمر في وصفها ويقارنها بالبحر لما من معان لهذا العالم الجميل الذي نركن إليه في هدوئه وعظمته ولا يمكن أن ندرك كل أسراره التي تغوص بها أعماقه فهو يهب الخيرات والحياة ويتميز بطبيعة مشابهة لطبيعة البشر بحيث يثور ويزبد وهو جبار في ثورته وغضبه مما يجعل المقتربين منه يضربون له ألف حساب، ولا يتلاعبون معه، فهو كما جعله الله واهب حياة جعله أيضا سببا في أخذها، وفي التشبيه بالبحر دلالة على علو الشأن لأن البحر حتى في هياجه يرمي إلى الشاطئ بعض الخيرات كما أن أعماقه لا يصلها سوى الغواص الماهر الذي بالرغم من ذلك لا يمكن أن يسبر أغواره كلها ...... أما النجم فيستقي منها الضياء والسمو وكيف لا وهي الشمس والبحر فهي محور كل شيء بنبلها وبراءتها ... وقد استغنى الشاعر عن أدوات التشبيه ليوصل الفكرة ويؤكد عجز الحروف عن وصفها... فقد استعمل أبلغ أنواع التشبيه عندما جعل المشبه به أقل من المشبه بكثير وهنا استعارة جميلة جعلت كلا من البحر والنجم والشمس يندهش من صفاتها ... خاصة وأن كل ممثل به كان يعتقد بأنه الوحيد الذي يملك تلك الأوصاف.... فأن يبدي البحر أمامها كل ما في قراره وأن تهمل الشمس في أوجها (الشروق) اكتمال جمالها ويشكو النجم خفوتا أمام إشراقتها وضوئها لأبلغ وصف وأرقاه إذ يحيل على عدم وجود مثيل لهذه الجارة، كما يبرز نظرة الشاعر إليها باعتبارها نجمة في السماء يصعب إدراكها...
ثم يختم وصف جمالها الخارق الذي لا يقارن بأي شيءبقوله:
أو رأتـهـا عـيــنُ حَـبْــرٍ****يبتـغـي أغـلــى تـجــاره
لتـخـلـى عــــن صــيــام**** وارتجـى منهـا إشــاره!
فلو رأى جمالها الحبر وهو رجل الدين اليهودي وقيل هو العالم بتحبير الكلام وعلمه وقيل هو الداهية، وقد ربطه الشاعر بالتجارة لما اشتهر عن اليهود من حبهم الشديد للمال حيث عرف عنهم التضحية بحياتهم من أجل الحفاظ عليه؛ ولكن أمام سحر جمال هذه الجارة ينسى الحبر أغلى تجارة ويتخلى عن الصلاة التي تعتبر من طقوس العبادة التي تجعل منه ما هو عليه....
وكأن كل الأوصاف التي أسبغها عليها لم تشف غليله في الوصف فيضيف:
هذه الأنثى ملاك****طاهر كل الطهارة
وهذا التزام منه بالفكرة الأولى حيث انطلق منذ البداية بحقيقة أن الكلمات لن تسعفه في وصفها.. لذلك يأتي ببيت يختم به هذا الوصف وكأنه الخلاصة التي ليس بعدها إضافة، فهو جاء بالكلام الفصل ليقرر بأنها ملاك متوسلا التشبيه البليغ، ومع ذلك لم يكتف بكونها ملاكا بل زاد تأكيدا مطلقا على الطهر والنقاء....
وهو بما سبق من أوصاف يبرر سبب عشقه الكبير لها:
ساقني عشقـي صريعـا**** *خاضــعا أرضى قَـراره
ففـؤادي لـيـس يصـحـو**** قـــد تغـشـتـه الـخُـمـاره
فهذا العشق العذري الصامت جعله صريع هواها وراضيا بكل ما يأتي منه من نتائج، كما أن فؤاده لا يصحو من حبها بل قد خامره هذا العشق كأنه داء عضال لا شفاء منه، ولكلمة الخمارة دلالات وكلها تبين درجة الوله بهذه الجارة، فالدلالة الأولى هي بلوغ درجة السكر والقرينة هي الصحو، وأما الثانية فهي المخالطة بحيث أصبح هذا الفؤاد مسكونا بالجارة وكأنه هي، جاء في الأثر:
هَنيئاً مَريئاً غَيْرَ داءٍ مُخَامِرٍ**** لِعَزَّةَ من أعراضِنا ما اسْتَحَلَّتِ
والدلالة الثالثة التخفي والانصهار والقرينة ( تغشته)؛ فقد أصبحت غشاء لفؤاده وغطاء له ...
والدلالة الرابعة المقاربة قيل:
فلا تدفِنُوني إنَّ دفْنِي مُحَرَّمٌ ***عليكُمْ ولكن خَامِرِي أمَّ عامرِ
وهذه الدلالات المتعددة تضفي على القصيدة رونقا وجمالا... لأنها تمنح القارئ هامشا أكبر من حرية الانفتاح على الصور الشعرية التي يمكن التمتع بجمالها؛ إذ مع كل دلالة يتولد شعور مغاير ومتعة مختلفة، كما تبين أيضا مهارة الشاعر في انتقاء الكلمات بذكاء لتحيل على تأويلات متعددة ...
ومن الوصف الداخلي لما يعتمل من مشاعر في فؤاده ينتقل إلى الوصف الخارجي للحالة التي هو عليها:
والمآقي دامعات**** ساهرات مستثارة
فالمآقي هي أطراف العين وتسمى المدامع أيضا وهذا دليل على أن الدموع منهمرات بدون انقطاع بسبب هذا الغياب، والتأكيد على الجمع يدل على غزارة الدمع وسرعة انهماره، لأنه لو ركز على العين لكان الدمع عاديا ولكن التشديد على المآقي وجمع الدمع ليس فقط للضرورة الشعرية والانضباط للوزن ولكن قد أضاف للمعنى أيضا بالمبالغة في سيلان الدمع وجريانه تلقائيا..
بعد كل هذا يصدر صرخة مكبوتة تتجلى في النداء وكأنه يستغيث إذ يقول:
يا خليلي استعينا ******بالمعاني والمهارة
بلغاها سوء حالي*****وائتياني بالبشارة
إن كلمة " خليليّ" وظيفية فهي تحمل بعدا خفيا بالإضافة إلى البعد الظاهر؛ وذلك لما يحدثها تناصها مع التراث القديم من تفاعل والتقاء خصوصا وأنه كان بالإمكان تعويضها بكلمة "صديقيّ" الشائعة في الوقت الحالي، ولكن اختياره لهذه الكلمة التي ألف الشعراء القدماء استعمالها على المجاز أكثر من استعمالها على الحقيقة، بحيث لم تكن تعني دائما وجود هؤلاء الخلان، يؤكد أنه ربما يتوجه إلى لسانه وقلبه ... كما أن إحالته على الاستعانة بالمعاني والمهارة فيه ما فيه من تلميح يجعلنا نعتقد بوجود التضمين هنا، مما يجعلنا نبحث عن رسالة مشفرة يقودنا إليها التناص ونستعرض بعض الأبيات القديمة بحثا عن هذه المعاني التي دعانا إليها الشاعر بذكاء ودهاء وبطريقة مباشرة...
يقول عمر بن أبي ربيعة:
خليلي فيما عشتما هل رايتما **** قتيلا بكى من حب قاتله قبلي
ويقول ابن الرومي:
خليليّ تيّمتني وحيد **** ففؤادي بها معنّى عميد
ويقسم بشار بعدم نسيان من يهو فيقول:
خليليّ عوجا بي على طرباتي *** فوالله لا أنسى الحبيب حياتي
ويتذكر ذو الرمة رسم الحبيب فينشد:
خليليّ عوجا اليوم حتى تسلما **** على طلل النقا والأخارم
كأن لم يكن إلا حديثا وقد أتى**** له ما أتى للمزمن المتقادم
أما جميل بثينة فإنه يحمل خليليه رسالة إلى حبيبته على غرار شاعرنا عبد الله بن بريك فيقول:
خليليّ إن قالـت بثينـة: ما له**** أتانا بلا وعدٍ؟ فقولا لها: لها
أتى وهو مشغولٌ لعظـم الذي به **** ومن بات يرعى السّها سهـا
وفي هذه الأمثلة التي جاءت على سبيل التمثيل لا الحصر تشابه بين معانيها وإحساس الشاعر .. مما يدفعنا إلى القول باستعارة هذه الكلمة لتحميلها حجم ودرجة ما يحس به تجاه هذه الغائبة الحاضرة فهو يستعمل كلمة "خليليّ" على المجاز ليضمنها حمولات إنسانية شتى يزيد البيت الأخير من تزكيتها حيث استعمل الفعل المضارع " أصلى" الدال على الفعل الاستمراري لهذا الاصطلاء وذلك ليبين استمرار عذابه ومعاناته التي ابتدأت منذ سباه لحظ الجارة: يقول
هكذا أصلى سعيري****مذ سباني لحظ جارة
يلاحظ في البيت التأكيد على بداية الفعل مع غياب أي مؤشر يدل على انتهاء ذلك السعير الذي خلفه ذلك الهيام الصامت الخفي، وزاده اختفاء الجارة موضوع هذا الحب الجارف تأججا واشتعالا....
وقد وفق الشاعر كثيرا في اختيار إيقاع خفيف ومتواتر ( مجزوء الرمل: فاعلاتن فاعلاتن**فاعلاتن فاعلاتن) لقصيدته بالرغم من أن هذا الوزن يحد من حرية الشاعر وانطلاقه بسبب تفعيلاته القليلة مما يعسر الغوص خلف المعاني والصور فهو من السهل الممتنع لأن الشاعر مطالب فيه بأقل عدد من الكلمات احتراما لقصر التفعيلات؛
وقد وصفه الخليل بقوله: " سُمِّيَ بذلك تشبيهًا له بقولهم: رَمَلْتُ الحصيرَ، إذا نسجتُه وضممتُ بعضه إلى بعض. وقال الزجاج: سُمّي بذلك تشبيهًا له بالرَّمَل الذي هو الهرولة في السير." فاستعماله ليس هينا باعتباره سريع الإيقاع قصير التفعيلة وقليل الكلام...
ومع ذلك فقد وفق شاعرنا إلى درجة كبيرة في إبداع صور راقية من ذلك ( غابت- حسن لا تجاريه العبارات- عيون كالشرارة- لو رآها البحر غنى- راقصا أبدى قراره- ...الشمس صبحا أهملت كل استدارة- عين حبر...- ساقني عشقي صريعا...- تغشّته الخمارة- المآقي دامعات...- يا خليليّ...-أصلى سعيري- سباني ...)
لقد اختار كلمات القصيدة بعناية وأتقن سبكها لتتلاءم مع خفة الوزن المختار وتجلت مهارته في حسن توظيف الكلم وتحميله أبعادا إنسانية جميلة زادته بإحالاته ودلالاته التي تحتمل أكثر من معنى في الآن نفسه روعة وثراء، كما أن هذا الإيقاع الخفيف ساهم في تكثيف السرد فجاءت القصيدة بأسلوب حكائي مبهر بتعابيره الفنية الرائقة وموسيقاه الجميلة التي جعلته معزوفة وجدانية رائعة ....